الفقيه سيدي أحمد الجريري

الفقيه العلامة سيدي أحمد الجريري
بقلم عبد الرحمن بن محمد الكتاني
هو أحمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد بن الفقيه الجريري الأندلسي ثم الغماري البرهوني، كانت عائلته المجيدة من العائلات الأندلسية التي هاجرت من الأندلس إلى المغرب فاستقرت أولا بقبيلة غمارة الشهيرة بالعلماء والأبطال ثم انتقلت إلى سلا.
ومنذ أن استقرت بها وأعضاؤها يسجلون في كل مناسبة سنحت لهم مفاخر عديدة ، فبيتهم بها من البيوت الشهيرة بالعلم والعمل والدين والفضل ، شهد التاريخ لجملة من أفراده بالأمجاد التي يعز نظيرها في غيره .
ولادته ونشأته:
ولد في شهر رجب الفرد سنة (1277هـ) من والِدين كريمين هما العلامة القاضي العدل السيد الحاج إبراهيم الجريري والسيدة خديجة كريمة العلامة المدرس السيد الحسن ابن العلامة الكبير القاضي النزيه السيد أحمد بن بناصر مَعْنِينُو، ونشأ في بيئة إسلامية جامعة نشأة مثالية لائقة بأمجاده.
مشیخته:
قرأ القرآن الكريم على الفقيه الصالح الرحالة ذي الخط الجميل السيد الحاج أحمد خضور السلاوي حتى استظهره كما استظهر عليه جملة من متون العلم المتداولة في عصره.
ثم اشتاقت نفسه لحضور مجالس العلم على علماء سلا فأذنه والده بذلك ؛ فلازم مجالس كبار العلماء المعروفين في أواخر القرن الثالث عشر ؛ وأعرف منهم السادة:
الحاج إبراهيم الجريري والده ، وعبد الله بن السيد الحاج الحارثي حجي ، والمكي بن الحاج محمد الصبيحي لازمه ملازمة الظل للشاخص عدة سنوات وهو عمدته ، وأحمد بن خالد الناصري، وعبد الله بن خضراء ، والحاج محمد بن عبد السلام ابن الحاج ، والحسن بن إسماعيل ، ومحمد بن عثمان زنيبر .
لازم دروس هؤلاء الأعلام إلى أن أصبح في عداد العلماء ، وحيث إنه لا حد للكمال ولا نهاية للفضيلة، فإن والده المقدس طيب الله ثراه، وجهه سنة (1298هـ) إلى جامعة القرويين بفاس ليرتوي من معينها علا بعد نهل ، فلازم مجالس أئمة العلم بها كالسادة :
الحاج محمد بن المدني گنون ، وعبد المالك الضرير ، وأحمد بن الخياط الزكاري.
ولما أصبح بحراً في جميع العلوم المتداولة في عصره رجع إلى سلا سنة 1302 ونزل إلى
ميدان التدريس بشجاعة نادرة وصبر فاق فيه شيوخه وأقرانه – فالتف حوله طلبة العلم البارزون وصاروا يرتوون من بحره الفياض ؛ فدرسوا عليه ما يأتي :
مختصر الشيخ خليل بشروحه المتداولة : الدردير الخرشي الزرقاني . ورسالة ابن أبي زيد القيرواني بشرح أبي الحسن . والمرشد المعين بشرح ميارة الكبير والصغير . وتوحيد ابن عاشر بشرح الشيخ الطيب بن كيران . والزقاقية بشرح الشيخ التاودي . والتحفة بشرح الشيخ التاودي. وجمع الجوامع بالمحلي وبناني . والآجرومية بشرح الأزهري. والجُمَل . والألفية بشرح المكودي . واللامية ومنظومة الشيخ الطيب بن كيران في علم الاستعارة بشرح البوري . وهمزية البوصيري بشرح بنيس . وبردة البوصيري. وكتاباً في الجغرافية لا أعرف اسمه.
وكتب لي العلامة الناسك السيد الحاج محمد المريني – أبقاه الله ـ أن المترجم له كان قد رأى في منامه أنه ختم صحيح البخاري بالضريح الإدريسي بفاس.
تلامذتـــه :
تخرجت من المدرسة الجريرية أجيال عديدة ما يقرب من خمسين سنة التى قضاها في التدريس ونشر الفضيلة : أي من سنة (1302هـ) التي رجع فيها من فاس وابتدأ التدريس إلى سنة (1351هـ) التي ترك فيها التدريس لضعف بصره .
وقد تخرجت عليه فيها طبقة كبرى من العلماء يفتخر بها التاريخ المغربي ، وطبقة ثانية تليها سد الجميع فراغاً كان يجب أن يسد . وسأذكر فيما يلي نماذج من الطبقة الأولى وأتبعها بنماذج من الطبقة الثانية :
الحاج الهاشمي ابن خضراء ، الحاج أحمد بن عبد النبي ، زين العابدين ابن عبود ، إدريس ابن خضراء، الحاج محمد الصبيحي ، حجي بن محمد زنيير ، محمد بن احساين النجار ، محمد بن عبد السلام السائح ، أبو بكر زنيبر ، الحاج العربي الناصري ، عبد القادر التهامي الوزاني ، الحاج أحمد الصبيحي ،إبراهيم بن أحمد التهامي الوزاني، محمد المنصوري ، محمد بن علي الدكالي، محمد بن الطيب العلوي، الطيب بن القرشي الناصري، الحاج محمد المريني ، إدريس الجعيدي ، الحاج محمد بن علي عواد ، عبد الصادق أطوبى ، الحاج أحمد معنينو ، محمد القادري ، عبد الله القادري ، أبو بكر القادري، الحاج العربي عواد ، جعفر بن أحمد الناصري ، الحاج أبو بكر بو شعراء ، جعفر بن السعيد العلوي، الحاج مصطفى قنديل ، الحاج محمد قنديل …. إلى غير ذلك من العلماء والفقهاء الذين لم تحضرني أسماؤهم الآن.
المساجد التي أقرأ فيها:
المسجد الأعظم . وضريح سيدي أحمد حجي . والزاوية الناصرية . والزاوية القادرية . وسيدي المخفي . والمُصَلَّى . نعم كان يلقي دروساً في الجغرافية والوطنية الربانية في مصلى العبد ويرسم لتلامذته خريطة العالم فوق الرمال.
شخصيته :
كان -رحمه الله -إماماً من أئمة العلم وشيخاً من شيوخ المعرفة وجبلاً من جبال الدين التي يعز نظيرها في كل زمان ومكان ، وكان يعطي الدليل العملي على صحة ما نقرأه في كتب السيرة والتاريخ من أوصاف الصحابة والتابعين والعلماء العاملين ، أئمة الهدى ومصابيح الدين مشاركاً في العلوم الأربعة عشر كلها من تفسير وحديث وسيرة وفقه وتوحيد وتصوف وأدب ولغة وصرف ومعان وبيان وبديع وحتى الجغرافية . غير أن الذي كان يغلب عليه منها : الأصول والفقه والتوحيد والسيرة النبوية والتصوف . لم يبلغ أحد في عصره مبلغه في العمل بالعلم والتفاني في التشبث بتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم تفانيا أصبح مضرب الأمثال ويتحدث عنه في هذا الباب بالحوادث المدهشة المطربة التي تذكرك بزهد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري وبالإمام أحمد بن حنبل وأئمة السلف الصالح الذين تحدث عنهم الحافظ أبو نعيم في ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) رضي الله عن الجميع.
وكان من العلماء القلائل الذين يجدون لذة كبرى في التدريس ونفع الخلق ، فيلقي عدة دروس في اليوم ويصدر عدة فتاوي يقصد بها وجه الله تعالى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمعه منه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: «العالم إذا أراد بعلمه وجه الله تعالى هابه كل شيء ، وإذا أراده يكثر به الكنوز هاب من كل شيء »
لم يبلغ أحد من أهل عصره مبلغه في ميدان التقوى والزهد في الدنيا ، وهذه هي الكرامة الكبرى التي يتفضل بها الله سبحانه على المحبوبين من عباده . ولله در الإمام القشيري رحمه الله حيث قال: (( اعلم أن من أجلِّ الكرامات التي تكون للأولياء : دوام التوفيق للطاعة والعصمة من المعاصي والمخالفات )) .
وكان متواضعاً لدرجة كبرى لا يرى لنفسه مزية وهو مجمع المزايا.
كنت أراه كثيراً ما يمر بأزقة سلا منفرداً وهو ضعيف البصر لا يريد أن يصحبه خادم أو ولد ، وكنت أنا إذ ذاك أسكن في ذلك الزقاق وأتردد على المكتب القرآني الكائن بدرب التيال الذي كان يديره الفقيه الناسك السيد محمد الفتحي بو شعراء رحمه الله ، وكان غيورا على الدين والوطن تجلت غيرته في كثير من المواقف أهمها تزعمه للعريضة التاريخية التي وجهها لأمير المؤمنين محمد الخامس طيب الله ثراه احتجاجاً على استصدار الفرنسيين للظهير البربري سنة 1930 ذلك الظهير الذي أرادوا به تمزيق وحدة المغرب إلى شطرين ، شطر يتحاكم إلى الشرع في الأحوال الشخصية فقط وشطر يتحاكم إلى العرف تمهيداً لإدماجه في حظيرة الشعب الفرنسي.
وكان يفتي بتحريم بيع أراضي المسلمين إلى الفرنسيين حتى ولو كانوا يشترونها من أجل مصالح المسلمين العامة بحسب الظاهر ، ويتحدث عنه في هذا الباب بما يجعله في صفوف رجال السلف الصالح.
كتب لي العلامة السيد الحاج محمد المريني قائلاً : «ومن تحريه وتثبته في الإفتاء أنه كان إذا أتاه السائل يجلسه في الأسطوان، كما أخبرني بذلك صديقي سيدي الطيب الناصري وغيره ، ويدخل للمنزل ويراجع المسألة رغم أنه متحقق بالنص الفقهي فيها ، كل ذلك كان منه ـ رحمه الله ـ تحرياً …..)).
((أما منهجه في الإفتاء فكان رضي ال الله عنه لا يعتمد إلا على معيار الونشريسي كما أخبرني بذلك من كان يلازمه، ويزيد في فتواه القواعد الأصولية وغيرها؛ فكان مجتهداً في الفتوى بكل معنى الكلمة)) .
وكان يحب آل البيت محبة كبرى على طريق العارفين كابن عربي الحاتمي وأبي مَدين الغوث رضوان الله عليهم.
ثناء الناس عليه:
– أولهم الإمام العلامة المشارك السيد محمد أحمد العلوي رحمه الله قاضي مكناس كتب إلى السيد الحاج محمد المريني قائلا: «كان شيخنا العلامة المشارك سيدي محمد بن أحمد العلوي لما كان في مجلس الاستئناف إذا جاءته فتوى الجريري في قضيته يقول لمن معه: فتوى فلان لا تناقش . وكان لا يفارقه مدة طويلة ، وكان والدي السيد أبو بكر المريني رحمه الله هو السبب في تعارفهما . وكانا يجتمعان في نوالة بسانية قريبة من الزاوية الكتانية في كل عشية ، وقد وجد كل منهما ضالته المنشودة في الآخر ، فبذكرهم تتنزل الرحمات . قال لي والدي : إنه كان يسمعهما يتذاكران ولم یدر شيئاً مما يقولان لتعمقهما)) .
– ومنهم الإمام المحدث الفقيه الأصولي السيد محمد بن عبد السلام السائح الرباطي رحمه الله ، ذكره في بعض كتبه المطبوعة واصفا له بعنقاء مغرب ، وهو الطائر المجهول الجسم الذي لم يوجد . وهي كلمة تدل على أنه المنفرد في الدنيا بكل مزية.
– ومنهم العلامة الكبير السيد محمد بن عبد السلام الروندة رحمه الله وزير العدل، وقف على فتوى قيمة أصدرها المترجم له فوافق عليها ووصفه بالفقيه المشارك العلامة المحقق النوازلي المفتي ، ذكره لي عليها قاضي سلا الحالي السيد أبو بكر بو شعراء حفظه الله.
– ومنهم والدي رحمه الله قال لي عنه:
((إنه نموذج حي من رجال السلف الصالح الذين قل نظيرهم في كل زمان ومكان. وزاد قائلاً : ولقد حضرت بعض دروسه في علم الأصول بالمسجد الأعظم بسلا فاستفدت منها استفادة جعلتني أعده من مشايخي…)).
– ومنهم العلامة الصوفي السيد محمد بن احساين النجار رحمه الله ، قال لي :(( لقد انتفعت كثيراً بأستاذي العلامة سيدي أحمد الجريري ولازمت دروسه مدة طويلة وهو الذي جرأني على الفتوى … ولقد كنت لا أوقع على الفتاوي التي أكتبها إلا بعد أن أعرضها عليه ويسلمها لي . وزاد قائلاً : لقد كان من الذين لا يخافون في الله لومة لائم ، كنت يوماً معه في جمع من كبار علماء فاس مكرمين عند باشاها العلامة الجليل السيد الحاج محمد الصبيحي رحمه الله ، فنطق بعضهم منتقدا بعض الصلوات النبوية التي كان بعض شيوخ التربية بفاس يلقنها لأصحابه ، فما كان من الشيخ الجريري إلا أن تصدى له محللاً الصلاة المذكورة تحليلاً علمياً وعرفانياً ، ومستدلاً على سموها بالقواعد النحوية والبلاغية والصوفية حتى أفحم المعترض وسلم له كلامه ، وكان كلامه يحظى بتأييد من الحاضرين)) .
– وكتب لي السيد الحاج محمد المريني قائلاً : ((إنه مما من الله علي به أن حضرت بعض الدروس في ضريح سيدي أحمد حجي رضي الله عنه في شهر ربيع الأول التي كان يلقيها شيخ الجماعة الزاهد الورع المحقق السلفي بكل معنى الكلمة سيدي أحمد الجريري في شرح الهمزية للإمام البوصيري رحمه الله ، وفي بعض الدروس بعد ما شرح البيت من جميع الفنون المتعلقة به ولم يتكلم الشارح على الجامع بين كذا وكذا : التفت الشيخ يسأل الحاضرين عن الجامع فلم يجبه إلا واحد ولم يعجبه الجواب ، فصار يقول : الجامع بين كذا وكذا ، هو كذا كذا، ببيان نادر حتى إنه لم يشعر بسقوط كسائه عن رأسه وانكشف مقدم رأسه فرأيته فاعلاً الوفرة ، ورأيت الكساء ممزقاً من جهة خده ، وكان من قطن اعتاد أهل سلا أن يصنعوه في معمل خاص …» .
– ومنهم أخونا الفاضل العلامة السيد عبد الله الجراري حفظه الله في الجزء الثاني من كتابه : ( أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين » ، قال ما لفظه : « كان مقبلاً على ربه غير مبال بزخارف الحياة وزهرتها . لا يقيم لنفسه وزناً ، مقتنعاً بما قدر له من الرزق الحلال الموروث عن والديه، بل كان أحياناً يشتغل بخدمة فلاحته فيعمل في حقل له بيده ، ولم تتشوق نفسه للمناصب العالية مع أهليته وكفاءته».
((وكان يفتي للناس إذا نزلت بهم نازلة فيجلي فيها ما أوتيه من اطلاع وتحقيق جالباً
النصوص المطابقة للواقع والصواب ، وما ثبت عنه أنه استلم أجرة عن أي نازلة …)).
وفاته ورثاؤه
أصيب المترجم له قبل موته بسنوات بضعف في بنيته وضعف في بصره لازماه إلى أن التحق بالرفيق الأعلى في أواخر ربيع الأول الموافق لأوائل يوليوز سنة 1934 ، وكانت له جنازة حافلة بعد عهد سلا بمثلها ، ودفن بالزاوية الدرقاوية مأسوفاً عليه من الجنة والناس .
وبمناسبة ذكراه الأربعينية أقام له أدباء العدوتين وشعراؤها بالزاوية الدرقاوية بعد عصر يوم الخميس ٤ جمادى الأولى 1353 الموافق 16 غشت 1934 حفلاً خطابياً كبيراً برئاسة الصوفي السيد عبد القادر الجعيدي عميد الطريقة الدرقاوية بها وخليفة الفقيه السيد الحاج محمد بوشعراء ، وبمساعدة ابن أخيه العالم الأديب السيد إدريس الجعيدي ألقيت بها كلمات عامرة و قصائد رائعة أذكر منهم السادة :الحاج محمد الصبيحي ، الحاج محمد بن اليمني الناصري ، عبد الله بن العباس الجراري ، أبو بكر الكتاني ، العربي معنينو ، محمد حركات، وأحمد العمراوي الطالب إذ ذاك بالقسم النهائي بكلية القرويين والعلامة الجليل القاضي بوزارة العدل.